حب الرسول - صلى الله عليه وسلم - تابع لحب الله
تعالى ، ولازم من لوازمه ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حبيب ربه
سبحانه ، ولأنه المبلغ عن أمره ونهيه ، فمن أحب الله تعالى أحب حبيبه - صلى
الله عليه وسلم - وأحب أمره الذي جاء به ؛ لأنه أمر الله تعالى .
ثم
إن النبي - صلى الله عليه وسلم - يُحب لكماله، فهو أكمل الخلق والنفس تحب
الكمال ، ثم هو أعظم الخلق - صلى الله عليه وسلم - فضلاً علينا وإحسانـًا
إلينا ، والنفس تحب من أحسن إليها ، ولا إحسان أعظم من أنه أخرجنا من
الظلمات إلى النور ، ولذا فهو أولى بنا من أنفسنا ، بل وأحب إلينا منها .
هو
حبيب الله ومحبوبه .. هو أول المسلمين ، وأمير الأنبياء ، وأفضل الرسل ،
وخاتم المرسلين .. - صلوات الله تعالى عليه - .
هو الذي جاهد وجالد
وكافح ونافح حتى مكّن للعقيدة السليمة النقية أن تستقر في أرض الإيمان ونشر
دين الله تعالى في دنيا الناس ، وأخذ بيد الخلق إلى الخالق - صلى الله
عليه وسلم - .
هو الذي أدبه ربه فأحسن تأديبه وجمّله وكمّله :
(وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم/4) ، وعلمه : (وَعَلَّمَكَ مَا
لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ
عَظِيماً)(النساء/113) وبعد أن رباه اجتباه واصطفاه وبعثه للناس رحمة مهداة
: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)(الأنبياء/107) ،
وكان مبعثه - صلى الله عليه وسلم - نعمة ومنّة : (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ
يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ
وَالْحِكْمَةَ )(آل عمران/164) .
هو للمؤمنين شفيع ، وعلى المؤمنين
حريص ، وبالمؤمنين رؤوف رحيم : (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ
أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ
بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ)(التوبة/128) - صلى الله عليه وسلم - .
على
يديه كمل الدين ، وبه ختمت الرسالات - صلى الله عليه وسلم - .
هو
سيدنا وحبيبنا وشفيعنا رسول الإنسانية والسلام والإسلام محمد بن عبد الله
عليه أفضل صلاة وسلام ، اختصه الله تعالى بالشفاعة ، وأعطاه الكوثر ، وصلى
الله تعالى عليه هو وملائكته : (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ
عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ
وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)(الأحزاب/56) صلى الله عليك يا سيدي يا حبيب الله ،
يا رسول الله ، يا ابن عبد الله ورسول الله .
هو الداعية إلى الله ،
الموصل لله في طريق الله ، هو المبلغ عن الله ، والمرشد إليه، والمبيّن
لكتابه والمظهر لشريعته .
ومتابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من
حبّ الله تعالى فلا يكون محبـًّا لله عز وجل إلا من اتبع سنة رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - ؛ لأن الرسول - عليه الصلاة والسلام - لا يأمر إلا
بما يحب الله تعالى ، ولا يخبر إلا بما يحب الله عز وجل ، التصديق به ، فمن
كان محبـًا لله تعالى لزمَ أن يتبع الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيصدقه
فيما أخبر ويتأسَّى به - صلى الله عليه وسلم - فيما فعل ، وبهذا الاتباع
يصل المؤمن إلى كمال الإيمان وتمامه ، ويصل إلى محبة رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - .
وهل محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلا من محبة
الله تعالى ؟! وهل طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلا من طاعة الله عز
وجل ؟! : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي
يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ
رَحِيمٌ)(آل عمران/31) .
يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية الشريفة :
" إن هذه الآية الكريمة حاكمة على من ادعى محبة الله تعالى وليس هو على
الطريقة المحمدية ، فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر حتى يتبع الشرع
المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله ، كما ثبت في الصحيح عن رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو
ردّ)) ولهذا قال الله تعالى : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ
فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) أي يحصل لكم فوق ما طلبتم من محبتكم
إياه وهو محبته إياكم، وهو أعظم من الأول كما قال بعض الحكماء : ليس الشأن
أن تحب ، إنما الشـأن أن تُحبَّ .
وحبّ سنّة رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - من حب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
يقول - عليه
الصلاة والسلام - : ((من أحب سنتي فقد أحبني ، ومن أحبني كان معي في
الجنة)) .
وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لها مكانتها
ومنزلتها ، فرتبتها تلي رتبة القرآن الكريم ، فهي في المنزلة الثانية بعد
كتاب الله عز وجل ، توضح القرآن الكريم وتفسره وتبين أسراره وأحكامه ،
وكثير من آيات القرآن الكريم جاءت مجملة، أو عامة ، أو مطلقة ، فجاءت أقوال
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأعماله كاشفة للمراد الإلهي وموضحة له
عندما فصّلت المجمل ، أو قيدت المطلق ، أو خصصت العام : (وَأَنْزَلْنَا
إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ
)(النحل/44) .
وهي الينبوع الثاني من ينابيع الشريعة الإسلامية .
هي
المصدر الثاني من مصادر التشريع بعد كتاب الله عز وجل : (لَقَدْ مَنَّ
اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ
أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ
الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ)(آل عمران/164) والحكمة هنا : السُّنَّة .
ولقد
أمرنا المولى سبحانه باتباعها ونهانا عن مخالفتها : (وَمَا آتَاكُمُ
الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)(الحشر/7) ليس
لنا إلا التسليم المطلق بها والإذعان لأحكامها : (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ
وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ
لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِم)(الأحزاب/36) .
كما جعل سبحانه
التسليم بها دلالة وعلامة على الإيمان الحق الصادق : (فَلا وَرَبِّكَ لا
يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا
يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا
تَسْلِيماً)(النساء/65) .
وهي حجة في التشريع ؛ لأنها وحي يوحى :
(وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى)(النجم/3 ،
4) .
من أجل ذلك كانت أقواله وأعماله - صلى الله عليه وسلم - بوصفه
رسولاً - داخلة في نطاق التشريع .
وما دامت أحكامه صادرة عن طريق
الله تعالى : (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ
)(النساء/105) ، وما دام هو مهدي إلى صراط الله تعالى وهو يهدي إلى صراط
الله عز وجل ، فعلى الناس الائتمار بأمره ، والابتعاد عن نهيه : (وَمَا
آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ
فَانْتَهُوا)(الحشر/7) .
فإذا كان الأمر كذلك ، فالسؤال الذي يطرح
نفسه هو : كيف نحب النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟
إن حبه - صلى
الله عليه وسلم - يكون بتعظيمه وتوقيره واتباع سنته والدفاع عنها ونصرة
دينه الذي جاء به ، وبمعنى آخر أن نحبه كما أحبه أصحابه - رضوان الله عليهم
- .
فمن المعلوم أن المجتمع المكي كان مجتمعـًا كافرًا فجاءه النور
المبين - صلى الله عليه وسلم - ، فدعا إلى الله سبحانه ، ولقي ما لاقى من
الصد والإعراض والأذى ، وأبى أكثر الناس إلا كفورا ، وفتح الله سبحانه بعض
القلوب لهذه الدعوة الخالدة ، ولهذا النور المبين ، فدخلت مجموعة بسيطة في
دين الله سبحانه ، فكيف كان الحب بينهم ؟
لقد بدأ هذا الحب بينهم
وبين من أخرجهم الله تعالى به من الظلمات إلى النور، بينهم وبين محمد - صلى
الله عليه وسلم - .
فهذه زوجه خديجة - رضي الله عنها - ومنذ اللحظة
الأولى التي أبلغها فيها بنزول الوحي ، هاهي تدفع - رضي الله عنها - عنه ،
وتثبت فؤاده بكلمات تبدو فيها المحبة ، جلية ، إذ تقول : " كلا والله ، ما
يخزيك الله أبدًا ، إنك لتصل الرحم ، وتحمل الكلَّ ، وتكسب المعدوم ،
وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الدهر " .
ولئن كانت هذه زوجه ،
فانظر ما فعل أبو بكر - رضي الله عنه - يوم وقف في قريش خطيبـًا يدعوهم إلى
الإسلام ، وما زال المسلمون في المرحلة السرية للدعوة، وعددهم قليل ، فقام
إليهم المشركون يضربونهم ضربـًا شديدًا ، وضرب أبو بكر - رضي الله عنه -
حتى صار لا يعرف أنفه من وجهه ، فجاء قومه بنو تيم فأجلوا المشركين عنه
وأدخلوه منزله وهم لا يشكون في موته - رضي الله عنه - ، وبقي أبو بكر - رضي
الله عنه - في غشية لا يتكلم حتى آخر النهار ، فلما أفاق كان أول ما تكلم
به : " ما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ " فلامه الناس .
لاموه
على أن يذكر محمدًا - صلى الله عليه وسلم - في مثل هذا الموقف الذي
يفترضون فيه أن يذكر نفسه ، وأن يتحسر على حاله .
لاموه فما أبه لهم
، وصار يكرر ذلك ، فقالت أمه : " والله ما لي علم بصاحبك محمد " ، فقال : "
اذهبي إلى أم جميل فاسأليها عنه " ، وكانت أم جميل امرأة مسلمة ، فلما
سألتها أم أبي بكر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت
أم جميل حُبًّا لمحمد - صلى الله عليه وسلم - وحرصـًا عليه : " لا أعرف
محمدًا ، ولا أبا بكر " ثم قالت : " تريدين أن أخرج معك ؟ " قالت : " نعم "
، فخرجت معها إلى أن جاءت أبا بكر - رضي الله عنه - فوجدته صريعـًا ،
فصاحت وقالت : " إن قومـًا نالوا هذا منك لأهل فسق ، وإني لأرجو أن ينتقم
الله منهم " فقال لها أبو بكر - رضي الله عنه - : " ما فعل رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - ؟ " فقالت له : هذه أمك تسمع " ، قال - رضي الله عنه - :
" فلا عين عليك منها " - أي أنها لن تفشي سرك - فقالت : " سالم هو في دار
الأرقم " فقال - رضي الله عنه - : " والله لا أذوق طعامـًا ولا أشرب
شرابـًا أو آتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " فقالت أمه : فأمهلناه
حتى إذا هدأت الرِّجل وسكن الناس خرجنا به يتكئ عليَّ ، حتى دخل على رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - فرقّ له رقّة شديدة ، وأكب عليه يقبله ، وأكب
عليه المسلمون كذلك، فقال أبو بكر - رضي الله عنه - : " بأبي أنت وأمي يا
رسول الله ، ما بي من بأس إلا ما نال الناس من وجهي ، وهذه أمي برَّةٌ
بولدها فعسى الله أن يستنقذها بك من النار " ، فدعا لها رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - ودعاها إلى الإسلام فأسلمت.
أيُّ حبٍ تكنه يا أبا
بكر لصاحبك ؟! أما انشغلت بنفسك وجراحك ووجهك الذي تغيرت معالمه ؟ لو شغلتك
آلامك لما لامك أحد من العالمين ، ولكن ماذا تصنع بحب ملك عليك كل جوارحك ؟
إنه
يحب في محمد - صلى الله عليه وسلم - الخُلق الذي طالما امتدحوه به قائلين :
هذا الصادق الأمين .
إنه يحب فيه الخُلق الحسن ، والرأي السديد ،
والعشرة الطيبة ، وكل ذلك قد خبره محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وهو اليوم
يحب فيه إلى جانب ذلك كله النبي - صلى الله عليه وسلم - .
أما خبر
سعد بن الربيع - رضي الله عنه - فعجيب ، حيث سأل النبي - صلى الله عليه
وسلم - : ((أفي الأحياء سعد أم في الأموات ؟)) فخرج أُبيّ بن كعب - رضي
الله عنه - يستطلع الخبر ، فوجده في الرمق الأخير ، فقال سعد : " بل أنا في
الأموات ، فأبلِغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عني السلام ، وقل له :
إن سعد بن الربيع يقول لك : جزاك الله عنَّا خيرًا ، ما جزى نبيـًا عن
أمته " ، ثم قال لأبي : " وأبلغ قومك عني السلام ، وقل لهم : إن سعد بن
الربيع يقول لكم إنه لا عذر لكم عند الله أن يخلص إلى نبيكم - صلى الله
عليه وسلم - وفيكم عين تطرف " ، ثم لم يبرح أن مات ، فجاء أبي بن كعب - رضي
الله عنه - النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره الخبر ، فقال - صلى الله
عليه وسلم - : ((رحمه الله ، نصح لله والرسول حيـًا وميتـًا)) .
ومن
حب الأنصار لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما رواه ابن هشام في سيرته
من أنه مر - صلى الله عليه وسلم - بدار من دور الأنصار من بني عبد الأشهل
وظفر ، فسمع البكاء والنواح على قتلاهم ، فذرفت عينا رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - فبكى ، ثم قال - صلى الله عليه وسلم - : ((لكن حمزة لا بواكي
له ! )) فلما رجع سعد بن معاذ وأسيد بن حضير - رضي الله عنهما - إلى دار
عبد الأشهل أمرا نساءهم أن يتحزمن ، ثم يذهبن فيبكين على عم رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - فلما سمع بكاءهن على حمزة - رضي الله عنه - خرج - صلى
الله عليه وسلم - عليهنَّ وهنَّ على باب المسجد يبكين عليه ، فقال :
((ارجعن يرحمكنَّ الله ، فقد آسيتن - عزيتن وعاونتن - بأنفسكنَّ)) ، وفي
رواية أنه قال - صلى الله عليه وسلم - لما سمع بكاءهنَّ : ((رحم الله
الأنصار ، فإن المواساة منهم ما علمت لقديمة، مروهنَّ فلينصرفن)) .
ومما
يذكر أيضـًا من هذا الحب الذي لا نهاية له حكاية تلك المرأة من بني دينار ،
وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأُحد ،
فلما نُعُوا لها قالت : " فما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ "
قالوا : " خيرًا يا أم فلان ، هو بحمد الله كما تحبين " ، قالت : " أرونيه
حتى أنظر إليه " ، فأشير لها إليه ، حتى إذا رأته قالت : " كل مصيبة بعدك
جلل " - أي صغيرة- .
مقابلة الحب بالحب
وبما أن النبي - صلى
الله عليه وسلم - ودينه الذي جاء به هو مصدر هذا الحب ، فمن البداهة أن نرى
حب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه ، وكيف بادلهم حبـًا بحب ،
ومودة بمودة ، وسأسوق في ذلك حادثة كلما ذكرتها أو قرأتها أعظمت المحب
والمحبوب .
كان ذلك عقب غزوة حنين ، حيث حرص النبي - صلى الله عليه
وسلم - في توزيعه للغنائم على أن يتألف بها من دخل في الإسلام من أهل مكة
وقبائل العرب ، ولذا فقد كانت معظم الغنائم بينهم ، إن لم تكن كلها ، ولم
يجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها للأنصار نصيبـًا ، فوجد هذا الحي
من الأنصار في أنفسهم ، حتى كثرت فيهم القالة ، حتى قال قائلهم : لقي والله
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قومه ، فدخل عليه سعد بن عبادة - رضي
الله عنه - من الأنصار ، فقال : " يا رسول الله ، إن هذا الحي من الأنصار
قد وجدوا عليك في أنفسهم ، لما فعلت في هذا الفيء الذي أصبت ، قسّمت في
قومك ، وأعطيت عطايا عظاما في قبائل العرب ، ولم يك في هذا الحي من الأنصار
منها شيء " ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((فأين أنتَ من ذلك
يا سعد ؟ )) ، قال : " يا رسول الله ، ما أنا إلا من قومي " ، فقال - صلى
الله عليه وسلم - : ((فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة)) فلما اجتمعوا أتاهم
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فحمد الله تعالى وأثنى عليه بما هو
أهله ، ثم قال : ((يا معشر الأنصار : مقالة بلغتني عنكم ، وجِدَةَ عتاب
وجدتموها عليَّ في أنفسكم ؟ ألم آتِكم ضُلالاً فهداكم الله ، وعالة - فقراء
- فأغناكم الله ، وأعداء فألف الله بين قلوبكم ؟)) قالوا : " بلى ، الله
ورسول الله أمن - أكثر نعمة - وأفضل " ، ثم قال - صلى الله عليه وسلم - :
((ألا تجيبونني يا معشر الأنصار ؟)) قالوا : " بم نجيبك يا رسول الله ؟ لله
ورسوله المنّ والفضل " ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : ((أما والله لو
شئتم لقلتم فلصَدقتم ولصُدِّقتم : أتيتنا مكذبـًا فصدقناك ، ومخذولاً
فنصرناك ، وطريدًا فآويناك ، وعائلاً فآسيناك ، أوجدتم يا معشر الأنصار في
أنفسكم فيَّ لعاعة - بقلة خضراء ناعمة - من الدنيا تألفت بها قومـًا
ليسلموا ، ووكلتكم إلى إسلامكم ؟ ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس
بالشاة والبعير ، وترجعوا برسول الله إلى رحالكم ؟ فوالذي نفس محمد بيده
لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار ، ولو سلك الناس شعبـًا - طريقـًا بين
جبلين - وسلكت الأنصار شعبـًا لسلكت شعب الأنصار ، اللهم ارحم الأنصار ،
وأبناء الأنصار ، وأبناء أبناء الأنصار)) ، فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم -
بلوها بالدموع - وقالوا : " رضينا برسول الله قسمـًا وحظـًا " .
ولئن
كان هذا مع الأنصار عامة ، فقد كان مع بعض المسلمين ، فقد قال أحد أصحاب
النبي - صلى الله عليه وسلم - : " يا رسول الله ، أعطيت عيينة بن حصن
والأقرع بن حابس مائة مائة ، وتركت جعيل بن سراقة الضمري " ، فقال رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - : ((أما والذي نفس محمد بيده لجعيل بن سراقة
خير من طلاع الأرض - ما يملأها حتى يطلع عنها ويسيل - كلهم مثل عيينة بن
حصن والأقرع بن حابس ، ولكني تألَّفتهما ليسلما ، ووكلت جعيل بن سراقة إلى
إسلامه)) .
ألا ما أعظم محمدًا - صلى الله عليه وسلم - حبيبـًا
محبوبـًا ، وما أعظمه محبـًا يضع الأمور في نصابها ، ويعطي كل ذي حقٍ حقه
وكل ذي قدرٍ قَدْرَه - صلى الله عليه وسلم - .
علم صحبه الكرام -
رضوان الله عليهم - الحب بحبه لهم فأحبوه ، وكان هذا الحب منهم علامة
إيمانهم ، وشعلة عقيدتهم ، وطريقهم لرضوان ربهم .
وصدق الله العظيم
إذ يقول سبحانه : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي
يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ
رَحِيمٌ)(آل عمران/31) .
المصادر : كتاب " الحب في القرآن " للدكتور
: محمود بن الشريف ، وكتاب " الحب في الله " للأستاذ : وصفت أحمد عوض .